لطفي لبيب

عندما تفكر في الكتابة عن فنان معاصر، لا بد أن تستدعي كل أدواره ومشاركاته الفنية الموجودة بالذاكرة أولًا، ثم تعود إلى الأعمال التي لم يساعدك الوقت على مشاهدتها، لتستقر على وجهة هذا الفنان، وتحدد الخطوات التي يمكن أن تسير عليها، للوصول إلى الخطوط التي سار عليها، وغالبًا يمكن أن يسعدك الحظ بخط أو اثنين على الأكثر، يكونان الملامح العامة التي يمكن من خلالها أن تتناول رحلة هذا الفنان.
لكن ما الذي يمكن أن تفعله عندما تجد نفسك أمام فنان، وضع بصمة قوية في كل الخطوط الفنية التي قد تخطر- أو لا تخطر- ببالك؟ ما الذي تفعله عندما تكتشف أن رحلته عبارة عن شبكة من الخطوط المتوازية والقوية؟ حيث سار في كل الاتجاهات التي تشكل كل الألوان والأدوار الفنية، ما بين التراجيدي والكوميدي، قدم الأدوار الاجتماعية السوية، وغير السوية، قدم الشرير، والطيب، الأرستقراطي وابن البلد، النصاب والمسالم، الضعيف والقوي، الشخصية المركبة والبسيطة، الزوج والأب والصديق، والمفاجأة أنه تطرق أيضًا للرومانسي، وفي كثير من الأحيان كان يلجأ إلى شخصيات فريدة من نوعها، يمزج خلالها بين الكثير من هذه الألوان في شخصية واحدة.
ما فعله هذا الفنان «التركيبة» جعل المتفرج بمجرد أن يرى وجهه، يتذكر على الفور شخصية «الجوكر»، الذي يمكن أن يحزنك إلى حد البكاء، أو يسعدك إلى حد البكاء من كثرة الضحك، والمدهش أنك تجده في لحظات أخرى، متلبسًا شخصية ساخرة، يسخر معها من نفسه ومن ظروف، بعدها يمكنك أن تضبطه يخدع المتفرج ويأخذه بعيدًا، في طريق لا يتوقعه، فينقم عليه خلاله، وفجأة يجعله يتعاطف معه، مازجًا بين كل هذه المشاعر والأحاسيس في تركيبة إنسانية واحدة، مستخدمًا كل أدوات الممثل من حركة وانفعالات وصوت، وقبلها ذكاء ممثل، قادر على صبغ كل لحظاته التمثيلية، بمجموعة ألوان خاصة به، لم يكتف خلالها بتلك الألوان الأساسية المتعارف عليها، بل نجح في مزجها ببراعة، ليخرج منها كل ألوان الطيف الفني، مدعمة بمخزون إنساني لا ينضب، دائمًا ما يفاجئ بها المتفرج، ليقف مشدوها أمام ما يقدمه هذا «البارع»، عبر مخزون التركيبات الإنسانية بعشرات، بل مئات الأقنعة التي يرتديها، والتي لا يشبه أحدها الآخر.
المثير في الأمر أن هذا «البارع» صاحب «الألف قناع» يقدم ذلك كله ببساطة نادرة، استطاع خلالها أن يتجاوز مرحلة توقع المتفرج له، بل حرص على إدهاشه في كل لقاء، عبر تركيبات شخصياته التي لا تشبه بعضها البعض، حتى لو تشابهت شخصياته أحيانًا، على ندرة ذلك، لتجده حاضرًا دائمًا بكل جديد ومختلف، فلا تملك سوى أن تصفق له طويلًا، ويجبرك على أن تبحث عن لقب يليق بتوصيف هذه الموهبة النادرة، التي تحمل لغز «الممثل النجم»، وهي صفة نادرة، لم يستطع كثيرون- في تاريخ الفن المصري والعربي- أن يتحلوا بها، مع الأخذ في الاعتبار ذلك الفارق الجوهري بين «الممثل» و«النجم»، وأنه هناك «ممثل» وهناك «نجم» وصنف ثالث نادر التحقق، يطلق عليه «الممثل النجم»، تلك الفئة المميزة، التي استطاع «لطفي لبيب» أن يحجز بينهم مكانة مميزة.

الدورة الثالثة و العشرون